جريمة العجز العربي!
لا أريد أن ألقي باللوم على الصهاينة وحدهم في جريمة 'أسطول الحرية'، مع اقتناعي بأنها جريمة، وبأنهم هم الذين ارتكبوها عن سابق عمد وتصميم وبخسة مفرطة، كي يضعوا حدا، مرة واحدة وإلى الأبد، لأية محاولة قد تقع في المستقبل لفك الحصار عن غزة، ويجهزوا تماما على دور تركيا التوسطي بين سورية وإسرائيل، وعلى رغبة تركيا في التدخل لصالح فلسطين. لقد شبعت، كما شبع عرب زماننا المجرم، من الاكتفاء بإدانة إسرائيل كلاميا ولعنها وشتم كل فرد فيها. وصرت كلما سمعت خبرا عن تحديها للنظام العربي، أشعر بحقد مضاعف عليه وأتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعه، لأنه فقد وظائف النظم جميعها عدا وظيفة إنتاج كميات متجددة وهائلة من الذل والخوف، يوزعها بالقسطاس على مواطنيه: من سيولد بعد دقائق إلى الذي سيلاقي ربه بعد ثوان!.
بعد نيف ومائة عام من 'الصراع ' ضد الصهيونية، وبعد هزائم تلاحقت حتى صار من الصعب إحصاؤها، استخلص النظام العربي أن قوته في لسانه وعضلات فكيه، وأن خير طريقة لخوض صراع فعلي مع العدو تكمن في تحاشي أي صراع ضده، أو في ترك المبادرة له: يصارع ويصرع العرب متى شاء، ويستريح لتجديد قواه متى رغب. يحدث هذا، لأن النظام العربي يعتقد أن عدوه ليس خارجيا بل داخليا، وأن الصهاينة يتيحون له تركيز قوته ضد شعبه، ويزفرون له الأجواء الضرورية للانتصار على مواطنيه، بما أن إضعاف الشعب وإذلاله وقتله وتجويعه وقمعه مصلحة عليا للجانبين، والشعوب العربية عدو مشترك يوحدهم الحقد عليه والتصميم على قهره، ضمن تقسيم عمل تمارس هي فيه تفتيت شعوبها وإنهاكها وشل قدراتها، وتدمير روحها المعنوية، ويمارس هو هواية إرهابها وإبقائها تحت السيطرة وعند حسن الظن.
في هذا الجو، وهذا التحالف الاستراتيجي، المعلن هنا والمضمر هناك، يستغرب المرء أن يطالب أحد المواطن العربي بإدانة الصهاينة وتوفير النظم العربية، حين تقع جريمة مدبرة ومخطط جيدا لها كالمجزرة التي تعرض لها المشاركون في محاولة الأول من حزيران الحالي لفك الحصار عن غزة. إن نظرة على الوقائع تؤكد أنه كان من المعلوم للقاصي والداني، وطيلة الأسبوع السابق للجريمة، أن أسطول الحرية قادم لا محالة إلى غزة. وكانت مواقعه وتحركاته معروفة أيضا. وكان معروفا ومعلنا أن إسرائيل ستتصدى له وستمنعه من الوصول إلى غزة، وأنها ستفعل ذلك بالقوة. وإذن، كان لدى النظم العربية الوقت الكافي للتحرك: سياسيا وعسكريا، قوميا وقطريا، رسميا وشعبيا، إقليميا ودوليا، كلاميا وعمليا ... الخ، لكنها لم تفعل شيئا، بما في ذلك إصدار إعلان تحذيري يتلوه موظف صغير في خارجية ما يقول: نحن نؤيد القادمين إلى غزة، ونطلب أن لا يتصدى أحد لهم، خاصة في المياه الدولية، حيث يحق لهم الإبحار دون إزعاج، بما أن هذه لا تخضع لسيادة إسرائيل. كان هناك أيضا ما يكفي من الوقت للاتصال بالدول، ولإعلامها برغبة 'العرب' في أن لا تتصدى إسرائيل للراغبين في الوصول إلى فلسطين. وكان هناك أخيرا إمكانية لاتصال مصر بالخارجية الإسرائيلية لإعلامها بموقف النظام العربي من العدوان على قافلة الحرية. يلاحظ القارىء أنني لم أطالب الأساطيل العربية بالخروج لحماية سفن القافلة. ولم اذكر أسلحة الجو العربية بأن المنطقة التي جاء الأسطول منها أقرب إلى الدول العربية منها إلى إسرائيل، وأنه كان من الضروري إرسال بعض السفن الحربية وبعض الطائرات لإشعار 'العدو' بأنه قد يكون للقضية ذيول. لكن هذا لم يحدث، ولن يحدث خلال الجرائم التي سترتكبها إسرائيل في القرن القادم إن بقي للعرب وجود متماسك حتى ذلك الحين -. والسبب: الحفاظ على نمط من الصراع يحافظ على نظام عربي يدير علاقاته مع إسرائيل في إطار مفهوم إدارة الأزمات، التي تبقى، في جميع الأحوال، أقل أهمية من أمنه وسلامته وبقائه في السلطة، فلا يجوز له أن يعرض نفسه لمخاطر صدام غير منضبط مع 'العدو'، فيه هلاكه.
تفرج النظام العربي على أسطول الحرية دون أن يحرك ساكنا، مثلما لم يحرك ساكنا طيلة أكثر من قرن لتغيير علاقات القوة بينه وبين إسرائيل، ولم يفعل شيئا لرفض التعايش مع هزائمه وتفوقها، فكان تعايشا بشروطها وتحت مظلتها، العسكرية أساسا، تطلب استمراره تذكير العربان من حين لآخر بحقائق ضعفهم، عبر الاختراق اليومي للأجواء العربية، والطيران فوق أي موقع عسكري سري أو علني، حصين أو قليل التحصين، وإرسال فرق استطلاع إلى مناطق تجري فيها تدريبات عسكرية عربية لمراقبتها عن كثب، فضلا عن مهاجمة وقصف مواقع مختارة على مسافات كبيرة من حدود فلسطين مع الدول العربية، واقتحام الموانىء العربية، بما فيها تلك الموجودة في شمال إفريقيا.
واليوم، وبعد وقوع الفاجعة الجديدة، لا يجتمع وزراء الدفاع وقادة الجيوش، كما كانوا يفعلون إلى ما قبل هزيمة حزيران حين تقع أحداث جسام. ولا يجتمع الحكام، بل تتسابق دول عديدة إلى دعوة عمرو موسى، أمين عام جامعة الدول العربية، لرد العدوان بما بقي لديه من كلام، بينما يتسابق عربان العصر إلى إغداق أشنع الأوصاف على الصهاينة، اقتداء بجدهم البدوي الذي صار مضرب المثل، عندما هاجمه في الصحراء لصوص أخذوا ما كان يسوقه من إبل، وحين عاد إلى مضارب قومه سألوه عما حدث، فقال جملة غدت شهيرة، ليس في اللغة العربية ما يجاريها أو يدانيها في وصف حال نظمنا الراهنة: أوسعتهم سبا وفازوا بالإبل!. تقول نظمنا اليوم ما قاله البدوي المسكين : سنوسعهم سبا في الجامعة العربية، وسيفوزون بالإبل!. أليست هذه هي المعادلة الوحيدة الماشية منذ أكثر من قرن ؟. إذا لم تكن هي المعادلة، فليفسر لي أحد ما هذا الضعف العربي، وهذا الامتناع الرسمي المصمم عن بذل أي جهد يهدد أو يغير ميزان قوى يزداد ميلا لصالح العدو، حتى صار العرب، أمة الثلاثمئة مليون ذكر وأنثى وترليونات الدولارات، مجردين من أية قوة، ولم يعد لدى حكامهم ما يفعلونه غير كشف دولهم وبلدانهم، وإضعاف مجتمعاتهم، والاحتماء بعجزهم، وإجهاض أو تعطيل أو معاداة من يمتلك بعض القوة منهم: كحزب الله.
وكان اجتماع جامعة الدول العربية كغيره من اجتماعات الجامعة: فرصة أخرى لإضعاف العرب وتحريك ما يفرقهم من تناقضات وخلافات وتعميقه، وللإمعان في تقطيع ما بينهم، دولا ومجتمعات وشعوبا، من أواصر وعلاقات تاريخية عادية، كي تخرج إسرائيل من الاجتماعات وقد أوسعناها سبا، لكنها فازت بإبل الخلافات العربية / العربية : رأس مالها الثمين، الذي ما كان قيامها وبقاؤها ممكنين طيلة قرن ونيف دون وجوده، ولو لم يكن قابلا للصرف والاستخدام على يد حكام العرب وضد شعوبهم، بلا توقف أو انقطاع!.
تضامن أجانب مع مأساة غزة، فخذلهم النظام العربي وتجاهل وجودهم والخطر المحدق بهم. وعندما قتلتهم إسرائيل بوحشية ودم بارد، كما كان متوقعا ومعلنا، انطلقت عبارات الإدانة والاستهجان من كل حدب وصوب، وانخرط الكلام في مواجهة طرفها الآخر ليس إسرائيل، بل عربي آخر.
هل سيتضامن أجانب آخرون مع مآسي العرب بعد الذي حدث؟. أنهم سيستمرون في التضامن، لأنهم أصحاب قناعات لا يترددون في التضحية بأنفسهم من أجلها، ولأنهم أحرار عالمنا، الذين يموتون من أجل حرية غيرهم، فمن المحال الحديث عن ما وقع لهم دون التركيز على هذا الجانب المضيء من موقفهم وحياتهم، الذي يجعل منهم أخوة في الروح والواقع لأنصار الحرية والمناضلين من أجلها في عالم العرب عامة وفلسطين خاصة. سيستمر نضال هؤلاء الأفذاذ لكسر حصار غزة ورد حقوق فلسطين الوطنية إلى شعبها. وستصر حكومة تركيا على موقفها من غزة وفلسطين، وسيستعيد شعبها دوره حيالها، فلا أقل من الاعتراف بجميله، وبأيدي حكومته البيضاء، ومن الضروري تحذير أردوغان ورفاقه من الغرق في مستنقعات النظام العربي، الذي سيناصبهم من الآن فصاعدا العداء، وسيفعل كل شيء لمنعهم من إحراجه وتحدي صمته وتواطئه، ولدفعهم إلى خارج المجال العربي عامة والفلسطيني خاصة.
سيستمر الأتراك وأحرار العالم في العمل لفك حصار غزة ورفع الظلم عن فلسطين. وسيستمر النظام العربي في التقوقع على ذاته خوفا من إسرائيل في الخارج وشعوبه في الداخل، ولن يحارب طواغيته بغير سيوف الكلام، الذي لطالما شهرت كي تغمد في قلب محبي لحرية والحقيقة من بنات وأبناء شعوبهم، وتذكرنا للمرة المليون أن زمن العرب الكلامي هو زمن هزيمتهم المديدة وهلاكهم الأكيد!.